التكلفة الإنسانية للحرب: مقال صاحبة السمو في مجلة 'لوبوان' الفرنسية

الدوحة, 09 سبتمبر 2024

نتخّذُ من "التكلفةِ الإنسانيةِ للحرب"، هذا العام، عنواناً لليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات. الهجمات التي شهدنا بعضاً من قصصها المروعة في أواخر شهر يناير بغزة، وقد برزت قصة الطفلة هند رجب، التي حُشرت في سيارة محاطة بجثث أقربائها، ممسكة بهاتف بنت عمها المحمول وتطلب المساعدة حتى استشهدت هي الأخرى برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلي.  سُجل نداؤها واستمع إليه الملايين.

كانت هند البالغة من العمر ستة أعوام تختبئ في سيارة مع عمها وعمتها وأطفالهما الثلاثة، فأُطلقت عليهم 355 طلقة من دبابة إسرائيلية، لم تكن تبعد عنهم سوى أمتار. كما عُثر على المسعفَين، اللذين أُرسِلا لإنقاذهم، وقد فارقا الحياة، في سيارة إسعاف قريبة محترقة.

كيف نقدر قيمة حياة الإنسان؟ هل بإمكاننا تقدير قيمة حياة هند الصغيرة الشجاعة وحياة أبناء عمها الثلاثة وعمها وعمتها؟ وحياة المسعفَين اللذين ضحيا بأنفسهما لمحاولة إنقاذ الأسرة؟ لقد لقى هؤلاء الشهداء حتفهم بين عشرات الآلاف من القتلى إثر هذا العدوان الوحشي؟

لقد تردد صدى قصة هند بين المتظاهرين في جميع أنحاء العالم. وغنوا الأغاني عنها ونعوها وحياتها القصيرة. لكن هند ليست سوى واحدة من بين الكثيرين - الكثيرين جدًا.

منذ بدء الحرب على غزة العام الماضي، ارتفع عدد الأطفال والمعلمين والأكاديميين والطلبة الذين قتلوا في غزة إلى نحو 20 ألفاً. لقد دُمرت أو أُتلفت أكثر من 93 في المائة من المباني المدرسية، بما في ذلك المدارس التي تديرها الأونروا وقد صُمّمَ بعضُها لتكونَ بمثابةِ سكنٍ في حالاتِ الطوارئ. وكانتْ معظمُ هذه المدارس مأهولةً بالنازحينَ الذينَ أصبحوا بلا مأوى بسببِ الحرب.

هذا هو العالم الذي نعيش فيه - حيث أعيد تصميم المدارس لتصبح مراكز إيواء للّاجئين. وبالرغمِ مِن أنّ القانونَ الدولي يُحرِّمَ استهدافَ مثلِ هذه المباني المدنية، أُصيبُ وقُتِلَ الآلافُ وهم يختبئونَ في ما ينبغي أن تكوَن "أماكنَ آمنة".

 

ما هي "التكلفة الانسانية" لهذه الحرب وأي حرب أخرى؟ لا أستطيع الإجابة على هذه الأسئلة. قلبي مليء بالإحباط والألم وخيبة الأمل.

هناك تكاليفٌ ماديّةٌ بالمليارات تتطلبُها إعادةُ إعمارِ البنى التحتية بما في ذلك المدارس والجامعات في غزة واليمن والسودان وسوريا وأوكرانيا وميانمار وغيرها. الدمار لا حدود له. أود أن أصفه بأن “لا معنى له" - لكنه ليس بلا معنى عند أولئك الذين يتسببون في هذا الخراب. إنهم يعلمون بكون استهداف وتدمير هذه المرافق وقتل المعلمين والأساتذة وتفكيك أسس التعليم، هم بذلك يبيدون مستقبل الأجيال. ولا شكَّ أنّ مَن يستهدفونَ التعليمَ يدركونَ ما يفعلون ويقصدونَهُ مع سبقِ الإصرار.

يا لها من خسارة. ليس فقط للأسر وليس فقط للأطفال والشباب وليس فقط لبلدانهم. إنها خسارة لكل واحد منا، بغض النظر عن مكان وجودنا في العالم. 

 كل هذه الإمكانات وكل هذه المواهب وكل هذه الحيوات: نخسرها ويصعب تعويضها: هناك من فقد حياته وهناك من فقد فرصة الدراسة ولن يتمكن أبدًا من الوفاء بالوعد الذي قطعه وهناك الناجي الذي حُرم من حقه الإنساني الأساسي في التعليم.

إن هذه المهزلة تحدث في جميع أنحاء العالم. وبينما أعيد فتح المدارس رسمياً في بعض مناطق السودان، يتواصل العنف ويتواصل تشريد الملايين وتتواصل الهجمات على التعليم. كما أدت أعمال الشغب الأخيرة في بنغلاديش إلى إغلاق المدارس على مستوى البلاد. وفي أوكرانيا، دُمرت أكثر من 1300 مدرسة بالكامل. ويدفعُ الطلبةُ الأبرياءُ في نيجيريا والكونغو الديمقراطية وكولومبيا وغيرِها ثمناً باهظاً للانقسامات المريرة. ستتحمل مجتمعاتهم تكلفة إعادة البناء وإصلاح العقول والقلوب المكسورة لعقود قادمة، ولكن دون الاستفادة من الشباب المتعلمين المستعدين لتولي مسؤولية القيادة.

يراقب العالم ما يجري لكنه لا يتحرك. ما عليك سوى إلقاء نظرة على غزة أو السودان، أو إلقاء نظرة على مخيمات اللاجئين في جميع أنحاء العالم، لمشاهدة تداعيات خمول المجتمع الدولي.

الصمت قاتل ولكن في ظلِّ كلِّ هذهِ الأحوالِ التي تُصَدِّرُ اليأس، يبقى أملي الوحيدُ مرهوناً بالشباب، فهؤلاءِ الطلبةُ الذين يواصلونَ الاحتجاجَ ضدَّ الحربِ والمعاناة في جميعِ أنحاءِ العالم يَرمِزونَ إلى قوةِ التعليم.  إنهم يستخدمونَ ما لديهم من نفوذٍ لصنعِ الفارق ولفت الانتباه إلى الظلم: لسرد قصص الأطفال مثل قصة هند. سيشاركُ بعضُ هؤلاء الشبابِ في صِنعِ التغييرِ في بلدانِهم، لكنَّ أقرانَهم في الدولِ المتضررةِ من النزاعات محرومونَ من هذه الفرصة حيث تحتاجُ هذهِ البلدانُ إلى مواهبِ وقدراتِ الشباب أكثرَ من غيرِها.

وهكذا.. مع تزايدِ تحدياتِ تغيّرِ المناخِ والأمراضِ والحروبِ التي يواجهُها هذا العالم الهش، يلزَمُنا الاستفادةَ من موهبةِ وقدرةِ كلِّ طفلٍ وشابٍ لإطلاقِ إمكاناتِهم، نحتاج إليهم للقراءة والكتابة والفهم والتواصل والابتكار والبحث والإنجاز ومواصلةِ تعليمِهم والحصول على الدرجات العلمية والشهادات الجامعية وتأهيلِهم للتدريسِ والدفاعِ عن الحقوق والقيادةِ وقبلَ كلِّ شيء: إننا بحاجةٍ إليهم أحياءً.

على شبكة الإنترنت، ستجدون صورة لهند رجب وهي تتخرج من روضة الأطفال. وهي تبتسم، وترفع قبعتها الصغيرة، وتنظر بفخر إلى الكاميرا.

عندما استشهدت هند، كانت والدتها تنتظرها أمام المستشفى وقد حملت حقيبتها الوردية الصغيرة. وفي داخلها دفتر ملاحظات كانت تتدرب فيه على خط يدها. أتساءل ماذا يا ترى كانت تريد هند أن تصبح لو سُمح لها أن تكبر؟

 

نُشرت أساساً باللغة الفرنسية: https://www.lepoint.fr/monde/gaza-il-faut-rappeler-le-cout-humain-de-la-guerre-09-09-2024-2569818_24.php#11